الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
كان صلى اللَّه عليه وسلم يَصُوم حتى يُقال: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى يُقال: لا يَصُومُ، وما استكمل صِيامَ شهر غيرَ رمضان، وما كان يصومُ في شهر أكثر مما يَصُوم في شعبان. ولم يكن يخرُج عنه شهر حتى يَصُومَ مِنه . ولم يَصُمِ الثَّلاثَة الأشهر سرداً كما يفعلُه بعضُ الناس، ولا صام رجباً قطُّ، ولا استحب صِيامَه، بل رُوى عنه النهى عن صيامه، ذكره ابن ماجه. وكان يتحرَّى صِيام يوم الإثنين والخميس. وقال ابنُ عباس رضى اللَّه عنه: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (لا يُفْطِرُ أَيَّامَ البِيض في سَفَرٍ ولا حَضَر) _ذكره النسائى_ وكان يحضُّ على صيامها. وقال ابنُ مسعود رضى اللَّه عنه: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كلِّ شهر ثلاثة أيام) . ذكره أبو داود والنسائى. وقالت عائشة: (لم يكن يُبالى مِن أىِّ الشهر صامها). ذكره مسلم، ولا تناقض بين هذه الآثار . وأما صيامُ عشرِ ذى الحِجَّةِ، فقد اخْتُلِفَ فيه، فقالت عائشة: (ما رأيته صائماً في العشر قط ).ذكره مسلم. وقالت حفصةُ:( أربعٌ لم يكن يَدَعُهُنَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: صيامُ يومِ عاشوراءِ، والعشرُ، وثلاثةُ أيامٍ من كل شهر، وركعتا الفجر). ذكره الإمام أحمد رحمه اللَّه . وذكر الإمام أحمد عن بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أنه (كان يَصوم تسعَ ذى الحِجة، ويَصُومُ عاشوراء، وثلاثةَ أيامٍ من الشهر، أو الاثنين من الشهر، والخميس)، وفى لفظ: الخميسين. والمثبِتُ مقدَّم على النافى إن صح . وأما صيامُ ستة أيام من شوَّال، فصح عنه أنه قال: (صِيامُهَا مَعَ رَمَضَانَ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ). وأما صيامُ يوم عاشوراء، فإنه كان يتحرَّى صومَه على سائِر الأيَّام، ولما قَدِمَ المدينة، وجد اليهودَ تصومُه وتُعظِّمُه، فقال: (نَحْنُ أَحَقُّ بمُوسى مِنْكُم) . فصامه، وأمَر بصيامه، وذلك قبلَ فرض رمضان، فلما فُرِضَ رمضان، قال: (مَنْ شَاءَ صَامَهُ ومَنْ شَاءَ تَرَكَه). وقد استشكل بعضُ الناس هذا وقال: إنما قَدِمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول، فكيف يقولُ ابن عباس: إنه قدم المدينة، فوجد اليهود صُيَّاماً يومَ عاشوراء؟وفيه إشكال آخر، وهو أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة، أنها قالت: كانت قُريشُ تصومُ يوم عاشوراء في الجاهلية، وكان عليه الصلاةُ والسلامُ يصُومُه، فلما هاجر إلى المدينة، صامه، وأمرَ بصيامه، فلما فُرِضَ شهرُ رمضانَ قال: (مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَركَه). وإشكال آخر، وهو ما ثبت في الصحيحين أن الأشعث بن قيس دخل على عبد اللَّه بن مسعود وهو يتغدَّى فقال: يا أبا محمد ؛ ادْنُ إلى الغَدَاءِ . فقال: أَوَ لَيْسَ اليومُ يومَ عاشُوراء؟ فقال: وهل تدرى ما يَوْمُ عاشُوراء؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هُوَ يومٌ كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَصُومُه قبل أن يَنْزِلَ رَمَضَانُ، فلما نزل رَمَضَانُ تركه.وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم حِينَ صام يَوْمَ عاشُوراء وأَمَرَ بِصيامِه، قَالُوا: يا رسولَ اللَّه ؛ إنَّهُ يومٌ تُعظِّمُه اليهودُ والنَّصارى، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إذا كانَ العَامُ المُقْبِل إنْ شَاءَ اللَّه صُمْنَا اليَوْمَ التَّاسِع) . فلم يأت العامُ المقبل حتَّى توفِّى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.فهذا فيه أن صومَه والأمَر بصيامه قبل وفاته بعام، وحديثُه المتقدِّمُ فيه أن ذلك كان عندَ مَقْدَمِه المدينة، ثم إن ابن مسعود أخبر أن يومَ عاشوراء تُرِكَ بِرمضانَ، وهذا يُخالفه حديثُ ابن عباس المذكور، ولا يُمكن أن يُقال: تُرِكَ فرضُه، لأنه لم يُفرض، لما ثبت في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا يَوْمُ عَاشُوراء، ولم يَكْتُبِ اللَّه عليكم صِيامَه، وأَنا صَائِمٌ، فمَن شَاءَ، فَلْيَصُمْ، ومَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِر). ومعاوية إنما سمع هذا بعد الفتح قطعاً . وإشكال آخر: وهو أن مسلماً روى في صحيحه عن عبد اللَّه بن عباس، أنه لما قيل لِرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنَّ هذا اليومَ تُعظِّمُه اليهودُ والنصارى قال: (إنْ بَقيتُ إلى قَابِل، لأصُومَنَّ التَّاسِعَ) فلم يأتِ العامُ القابِلُ حتى تُوفِّى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم روى مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال: انتهيتُ إلى ابن عباس وهو متوسِّد رداءه في زمزم، فقلتُ له: أخبرنى عن صوم عاشوراء . فقال:(إذا رَأَيْتَ هِلال المُحرَّم، فاعدُدْ، وأصبح يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِماً قُلْتُ: هَكَذَا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم ). وإشكال آخر: وهو أن صومَه إن كان واجباً مفروضاًَ في أول الإسلام، فلم يأمرهم بقضائه، وقد فات تبييتُ النيةِ له من الليل وإن لم يكن فرضاً، فكيف أمرَ بإتمام الإمساك مَنْ كان أكل؟ كما في المسند والسنن من وجوه متعددة، أنه عليه السلام، أمر مَن كان طَعِمَ فيه أن يصُومَ بَقيَّةَ يَوْمِه. وهذا إنما يكون في الواجب، وكيف يَصِحُّ قولُ ابنِ مسعود: فلما فُرِضَ رمضانُ، تُرِكَ عاشوراء، واستحبابه لم يترك؟ وإشكال آخر: وهو أن ابن عباس جعل يوم عاشوراء يومَ التاسع، وأخبر أن هكذا كان يصومُه صلى اللَّه عليه وسلم، وهو الذي روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاء، وخَالِفُوا اليهودَ، صُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ) ذكره أحمد. وهو الذي روى: (أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصَوْمِ عَاشُورَاء يَوْمَ العَاشِر) ذكره الترمذى. فالجواب عن هذه الإشكالات بعون اللَّه وتأييدِه وتوفيقه: أما الإشكالُ الأول: وهو أنَّه لما قَدِمَ المدينة، وجدهم يصُومون يومَ عاشوراء، فليس فيه أن يومَ قدومِه وجدَهم يصومُونه، فإنه إنما قَدِمَ يومَ الاثنين في ربيع الأول ثانى عشرة، ولكن أول علمه بذلك بوقوع القصة في العام الثانى الذي كان بعد قدومه المدينة، ولم يكن وهو بمكة، هذا إن كان حسابُ أهل الكتاب في صومه بالأشهر الهلالية، وإن كان بالشمسية، زال الإشكالُ بالكلية، ويكونُ اليومُ الذي نجى اللَّه فيه موسى هو يوم عاشوراء من أول المحرَّم، فضبطه أهلُ الكتاب بالشهور الشمسية، فوافق ذلك مقدَم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، وصومُ أهلِ الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس، وصومُ المسلمين إنما هو بالشَّهر الهلالى، وكذلك حَجُّهم، وجميع ما تُعتبر له الأشهر من واجب أو مُستحَبٍّ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم)، فظهر حكمُ هذه الأولوية في تعظيم هذا اليوم وفى تعيينه، وهم أخطؤوا تعيينه لدورانه في السنة الشمسية، كما أخطأ النصارى في تعيين صومهم بأن جعلوه في فصل من السنة تختلِف فيه الأشهر . وأما الإشكال الثانى: وهو أن قريشاً كانت تصومُ عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصُومُه، فلا ريبَ أن قريشاً كانت تُعظِّم هذا اليوم، وكانوا يكسُون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه، ولكن إنما كانوا يعدُّون بالأهلة، فكان عندهم عاشِرَ المحرَّم، فلما قَدِمَ النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، وجدهم يُعظِّمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليومُ الذي نجَّى اللَّه فيه موسى وقومَه من فرعون، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: (نحن أحقُّ منكم بموسى)، فصامه وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه وتأكيداً، وأخبر صلى اللَّه عليه وسلم أنَّه وأُمَّتَه أحقُّ بموسى من اليهود، فإذا صامه موسى شُكراً للَّه، كنا أحقَّ أن نقتدى به من اليهود، لا سيما إذا قلنا: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يُخَالِفْهُ شَرْعُنَا . فإن قيل: من أين لكم أن موسى صامه؟ قلنا: ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما سألهم عنه، فقالوا: يوم عظيم نجَّى اللَّه فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً للَّه، فنحن نصومه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُم). فَصَامَهُ، وأَمر بصِيامِه، فلما أقرَّهم على ذلك، ولم يُكذبهم، عُلِمَ أن موسى صامه شكراً للَّه، فانضمَّ هذا القدرُ إلى التعظيم الذي كان له قبل الهجرة، فازداد تأكيداً حتى بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منادياً يُنادى في الأمصار بصومه، وإمساك مَن كان أكل، والظاهر: أنه حتَّم ذلك عليهم، وأوجبه كما سيأتى تقريره . وأما الإشكال الثالث: وهو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان يصومُ يَوْمَ عاشوراء قبل أن ينزِل فَرضُ رمضان، فلما نزل فرضُ رمضان تركه، فهذا لا يُمكن التخلُّص منه إلا بأن صيامه كان فرضاً قبل رمضان، وحينئذ فيكون المتروكُ وجوب صومه لا استحبابه، ويتعين هذا ولا بُد، لأنه عليه السلام قال قبل وفاته بعام وقد قيل له إن اليهود يصومونه : (لئِن عِشْتُ إلى قَابِل لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ) أى: معه، وقال: (خالِفوا اليهودَ وَصُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أو يَوْماً بَعْدَهُ)، أى: معه، ولا ريب أن هذا كان في آخر الأمر، وأما في أول الأمر، فكان يُحب موافقة أهلِ الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشئ، فعُلِم أن استحبابه لم يُترك . ويلزم مَن قال: إن صومَه لم يكن واجباً أحدُ الأمرين، إما أن يقولَ بترك استحبابه، فلم يبق مُستحَباً، أو يقول: هذا قاله عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنه برأيه، وخفى عليه استحبابُ صومه، وهذا بعيد، فإن النبى صلى الله عليه وسلم حثَّهم على صيامه، وأخبر أن صومه يُكفِّر السنة الماضية، واستمر الصحابةُ على صِيامه إلى حين وفاته، ولم يُرْوَ عنه حرف واحد بالنهى عنه وكراهة صومه، فعُلِمَ أن الذي تُرِكَ وجوبُه لا استحبابه . فإن قيل: حديث معاوية المتفق على صحته صريح في عدم فرضيته، وأنه لم يُفرض قط، فالجواب: أن حديث معاوية صريح في نفى استمرار وجوبه، وأنه الآن غيرُ واجب، ولا ينفى وجوباً متقدماً منسوخاً، فإنه لا يمتنِعُ أن يقال لما كان واجباًً، ونُسِخَ وجوبُه: إن اللَّه لم يكتبْه علينا . وجواب ثان: أن غايته أن يكون النفى عاماً في الزمان الماضى والحاضر، فيُخص بأدلة الوجوب في الماضى، وترك النفى في استمرار الوجوب . وجواب ثالث: وهو أنه صلى اللَّه عليه وسلم، إنما نفى أن يكون فرضُه ووجوبُه مستفاداً من جهة القرآن، ويدلُّ على هذا قوله: (إن اللَّه لم يكتبه علينا)، وهذا لا ينفى الوجوب بغير ذلك، فإن الواجب الذي كتبه اللَّه على عباده، هو ما أخبرهم بأنه كتبه عليهم، كقوله تعالى: فإن قيل: فكيف يكون فرضاً ولم يحصُلْ تبييتُ النية من الليل وقد قال: (لا صِيامَ لِمَنْ لَمْ يُبِيِّتِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيْل)؟ فالجواب: أن هذا الحديث مختلفٌ فيه: هل هو مِن كلام النبى صلى الله عليه وسلم، أو مِنْ قولِ حفصةَ وعائشة؟ فأَما حديثُ حفصة: فأوقفه عليها معمرٌ، والزهرى، وسفيانُ بن عُيينة، ويونسُ بن يزيد الأيلى، عن الزهرى، ورفعه بعضُهم وأكثر أهلِ الحديثِ يقولون: الموقوفُ أصحُّ، قال الترمذى : وقد رواه نافع عن ابن عمر قولَه، وهو أصحُّ، ومنهم مَن يُصحح رفعَه لثقة رافعه وعدالته، وحديث عائشة أيضاً: روى مرفوعاً وموقوفاً، واختلف في تصحيح رفعه . فإن لم يثبت رفعُه، فلا كلام، وإن ثبت رفعُه، فمعلومٌ أن هذا إنما قاله بعد فرض رمضان، وذلك متأخر عن الأمر بصيام يومِ عاشوراء، وذلك تجديدُ حكم واجب وهو التبييتُ، وليس نسخاً لحكم ثابت بخطاب، فإجزاء صيام يومِ عاشوراء بنية من النهار، كان قبل فرض رمضان، وقبل فرض التبييت مِن الليلِ، ثمَّ نُسِخَ وَجُوبُ صومِه برمضان، وتجدد وجوب التبييت، فهذه طريقة . وطريقة ثانية هي طريقةُ أصحاب أبي حنيفة: أن وجوب صيام يوم عاشوراء تضمَّن أمرين: وجوبَ صومِ ذلك اليوم وإجزاء صومِه بنية من النهار، ثم نُسِخ تعيينُ الواجب بواجب آخر، فبقى حكم الإجزاء بنيةٍ من النهار غير منسوخ . وطريقة ثالثة: وهى أن الواجب تابع للعلم، ووجوب عاشوراء إنما عُلِمَ من النهار، وحينئذ فلم يكن التبييتُ ممكناً، فالنيةُ وجبت وقت تجدُّدِ الوجوب والعلم به، وإلا كان تكليفاً بما لا يُطاق وهو ممتنع . قالُوا: وعلى هذا إذا قامت البينةُ بالرؤية في أثناء النهار . أجزأ صومه بنية مقارِنة للعلم بالوجوب، وأصلُه صومُ يومِ عاشوراء، وهذه طريقة شيخنا، وهى كما تراها أصحُّ الطرق، وأقربُها إلى موافقة أُصول الشرع وقواعده، وعليها تَدُلُّ الأحاديثُ، ويجتمِعُ شملُها الذي يُظن تفرقه، ويُتخلص من دعوى النسخ بغير ضرورة، وغير هذه الطريقة لا بُدَّ فيه من مخالفة قاعدة مِن قواعد الشرع، أو مخالفة بعض الآثار . وإذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل قُباء بإعادة الصلاة التي صلَّوا بعضها إلى القِبْلة المنسوخة إذ لم يبلُغهم وجوبُ التحول، فكذلك مَن لم يبلغه وجوبُ فرضِ الصوم، أو لم يتمكن مِن العلم بسبب وجوبه، لم يُؤمر بالقضاء، ولا يُقال: إنه ترك التبييتَ الواجِبَ، إذ وجوبُ التبييت تابع للعلم بوجوب المبيّت، وهذا في غاية الظهور . ولا ريبَ أن هذه الطريقةَ أصحُّ مِن طريقة مَن يقول: كان عاشوراء فرضاً، وكان يُجزئ صيامُه بنية من النهار، ثم نُسِخَ الحكمُ بوجوبه، فنُسِخَتْ متعلقاتُه، ومن متعلقاته إجزاء صيامِه بنية من النهار، لأن متعلقاته تابعة له، وإذا زال المتبوع، زالت توابعُه وتعلقاتُه، فإن إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار لم يكن من متعلقات خصوصِ هذا اليوم، بل من متعلِّقات الصومِ الواجب، والصومُ الواجب لم يَزُلْ، وإنما زال تعيينه، فنُقِل من محل إلى محل، والإجزاء بنيةٍ من النهار وعدمِه من توابع أصل الصوم لا تعيينه . وأصحُّ مِن طريقة مَن يقول: إن صوم يوم عاشوراء لم يكن واجباً قط، لأنه قد ثبت الأمرُ به، وتأكيدُ الأمر بالنداء العام، وزيادة تأكيده بالأمر لمن كان أكل بالإمساك، وكلُّ هذا ظاهر، قوى في الوجوب، ويقول ابن مسعود: إنه لما فُرِضَ رمضان تُرِكَ عاشوراء . ومعلوم أن استحبابه لم يُترك بالأدلة التي تقدَّمت وغيرها، فيتعين أن يكون المتروكُ وجوبه، فهذه خمس طرق للناس في ذلك . واللَّه أعلم . وأما الإشكال الرابع: وهو أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (لئِن بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ)، وأنه توفى قبل العام المقبل، وقول ابن عباس : إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع، فابن عباس روى هذا وهذا، وصحَّ عنه هذا وهذا، ولا تنافى بينهما، إذ من الممكن أن يصومَ التاسِعَ، ويخبر أنه إن بقى إلى العام القابل صامه، أو يكون ابنُ عباس أخبر عن فعله مستنداً إلى ما عزم عليه، ووعد به، ويصِحُّ الإخبارعن ذلك مقيداً، أى: كذلك كان يفعل لو بقى، ومطلقاً إذا علم الحال، وعلى كل واحد من الاحتمالين، فلا تنافى بين الخبرين . وأما الإشكال الخامس: فقد تقدَّم جوابه بما فيه كفاية . وأما الإشكال السادس: وهو قول ابن عباس: اعدُدْ وأصبح يوم التاسع صائماً . فمَن تأمل مجموع روايات ابن عباس، تبيَّن له زوالُ الإشكال، وسعةُ علم ابن عباس، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليومَ التاسع، بل قال للسائل: صُمِ اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليومُ العاشر الذي يعدُّه الناسُ كلُّهم يومَ عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصومُه كذلك . فإما أن يكون فِعلُ ذلك هو الأَوْلى، وإما أن يكون حَمْلُ فعله على الأمر به، وعزمه عليه في المستقبل، ويدلُّّ على ذلك أنه هو الذي روى: (صُومُوا يوماً قبله ويوماً بعده)، وهو الذي روى: أمرنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء يوم العاشر . وكل هذه الآثار عنه، يُصدِّقُ بعضُها بعضاً، ويُؤيِّد بعضُها بعضاً . فمراتب صومه ثلاثة: أكملُها: أن يُصام قبله يومٌ وبعده يومٌ، ويلى ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثرُ الأحاديث، ويلى ذلك إفرادُ العاشر وحده بالصوم . وأما إفراد التاسع، فمن نقص فهم الآثار، وعدمِ تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، واللَّه الموفق للصواب . وقد سلك بعضُ أهل العلم مسلكاً آخر فقال: قد ظهر أن القصدَ مخالفةُ أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصلُ بأحد أمرين: إما بنقلِ العاشر إلى التاسع، أو بصيامِهما معاً . وقوله: (إذا كان العامُ المقبلُ صُمنا التاسِع): يحتمِل الأمرين . فتوفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يتبيَّن لنا مرادُه، فكان الاحتياطُ صيامَ اليومين معاً، والطريقة التي ذكرناها، أصوبُ إن شاء اللَّه، ومجموع أحاديثِ ابن عباس عليها تدلُّ، لأن قوله في حديث أحمد: (خالِفوا اليًَهُودَ، صُومُوا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ)، وقوله في حديث الترمذى:(أُمِرْنَا بِصِيامِ عاشوراء يوم العاشر) يبين صحة الطريقة التي سلكناها . واللَّه أعلم . وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم : إفطارُ يَوْمِ عرفة بعرفة، ثبت عنه ذلك في الصحيحين . وروى عنه أنه(نهى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ) رواه عنه أهل السنن. وصح عنه أن(صيامِه يُكفِّرُ السنة الماضِيةَ والبَاقِيةَ) ذكره مسلم . وقد ذُكر لِفطره بعرفة عِدَّةُ حِكمٍ . منها: أنه أقوى على الدعاء . ومنها: أن الفِطرَ في السفر أفضلُ في فرض الصوم، فكيف بنفله . ومنها: أن ذلك اليومَ كان يومَ الجمعة، وقد نَهى عن إفراده بالصَّـوم، فأحب أن يرى الناسُ فطره فيه تأكيداً لنهيه عن تخصيصه بالصوم، وإن كان صومُه لكونه يَوْمَ عرفة لا يوم جمعة، وكان شيخنا رحمه اللَّه يسلُك مسلكاً آخر، وهو أنه يومُ عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه، كاجتماع الناس يوم العيد، وهذا الاجتماع يختصُّ بمن بعرفة دون أهل الآفاق . قال: وقد أشار النبى صلى الله عليه وسلم إلى هذا في الحديث الذي رواه أهلُ السنن: (يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وأيَّام مِنَى، عِيدُنَا أَهْلَ الإسْلامِ). ومعلوم: أن كونه عيداً، هو لأهل ذلك الجمع، لاجتماعهم فيه . واللَّه أعلم . وقد رُوى أنه صلى اللَّه عليه وسلم : كان يصومُ السبتَ والأحد كثيراً، يقصِدُ بذلك مخالفة اليهود والنصارى كما في المسند، وسنن النسائى، عن كُريب مولى ابن عباس قال: أرسلنى ابنُ عباس رضىَ اللَّه عنه، وناسٌ من أصحاب النبىِّ صلى الله عليه وسلم إلى أمِّ سلمة أسألها؟ أىُّ الأيَّامِ كَانَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم أكثَرها صِياماً؟ قالت: يومُ السبت والأحد، ويقول: (إنَّهُمَا عِيدٌ للمُشْرِكِين، فَأَنا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُم) . وفى صحة هذا الحديث نظر، فإنه من رواية محمد بن عمر بن علىّ بن أبي طالب، وقد استُنْكِرَ بعضُ حديثه . وقد قال عبد الحق في (أحكامه) من حديث ابن جريج، عن عباس بن عبد اللَّه بن عباس، عن عمَّه الفضل: زار النبى صلى الله عليه وسلم عباساً في بادية لنا . ثم قال: إسناده ضعيف . قال ابن القطان: هو كما ذكر ضعيف، ولا يُعرف حال محمد بن عمر، وذكر حديثه هذا عن أم سلمة في صيام يوم السبت والأحد، وقال: سكت عنه عبد الحق مصححاً له، ومحمد بن عمر هذا، لا يُعرف حاله، ويرويه عنه ابنه عبد اللَّه بن محمد بن عمر، ولا يُعرف أيضاً حاله، فالحديث أراه حسَناً . واللَّه أعلم . وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، عن عبد اللَّه بن بُسر السُّلمى، عن أخته الصَّمَّاء، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَصُومُوا يَوْم السَّبْتِ إلاَّ فيما افتُرِضَ عليكم، فإنْ لَمْ يَجِد أَحَدُكُم إلاَّ لِحاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْه) . فاختلف الناس في هذين الحديثين . فقال مالك رحمه اللَّه: هذا كذب، يريد حديث عبد اللَّه بن بُسر، ذكره عنه أبو داود، قال الترمذى: هو حديث حسن، وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ، وقال النسائى: هو حديث مضطَرِب، وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارُض بينه وبين حديث أمِّ سلمة، فإن النهى عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهى أن يُخص يومَ السبت بالصوم، وحديثُ صِيامه، إنما هو مع يوم الأحد . قالوا : ونظيرُ هذا أنه نهى عن إفراد يَوْمِ الجمعة بالصوم، إلا أن يَصومَ يوماً قبله أو يوماً بعده، وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه مَن قال: إن صومه نوعُ تعظيم له، فهو موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه، وإن تضمن مخالفتهم في صومه، فإن التعظيم إنما يكون إذا أُفِردَ بالصوم، ولا ريب أن الحديث لم يجئ بإفراده، وأما إذا صامه مع غيره، لم يكن فيه تعظيمٌ . واللَّه أعلم . ولم يكن من هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم سردُ الصوم وصيام الدهر، بل قد قال: (مَنْ صَامَ الدَّهْرَ لا صَامَ ولا أَفْطر) . وليس مرادُه بهذا مَنْ صامَ الأيامَ المحرَّمة، فإنه ذكر ذلك جواباً لمن قال: أرأيتَ مَنْ صَامَ الدَّهْر؟ ولا يُقال في جواب من فعل المحرَّم: لا صامَ ولا أَفْطر، فإن هذا يُؤذن بأنه سواءٌ فِطْرُه وصومُه لا يُثَاب عليه، ولا يُعاقَب، وليس كذلك مَنْ فعل ما حرَّم اللَّه عليه مِن الصيام، فليس هذا جواباً مطابقاً للسؤال عن المحرَّم من الصوم، وأيضاً فإن هذا عند مَن استحب صوم الدهر قد فعل مستحباً وحراماً، وهو عندهم قد صام بالنسبة إلى أيام الاستحباب، وارتكب محرَّماً بالنسبة إلى أيام التحريم، وفى كلٍّ منهما لا يُقال: (لا صَامَ ولا أَفْطَر) فتنزيل قوله على ذلك غلط ظاهر . وأيضاً فإن أيام التحريم مستثناةٌ بالشرع، غيرُ قابلة للصوم شرعاً، فهى بمنزلة الليل شرعاً، وبمنزلة أيَّامِ الحيض، فلم يكن الصحابةُ لِيسألوه عن صومها، وقد علموا عدم قبولها للصوم، ولم يكن لِيُجيبهم لو لم يعلموا التحريم بقوله: (لا صَام ولا أَفْطَر)، فإن هذا ليس فيه بيان للتحريم . فهَدْيُه الذي لا شك فيه، أن صيامَ يوم، وفِطرَ يومٍ أفضلُ من صوم الدهر، وأحبُّ إلى اللَّه . وسرد صيام الدهر مكروه، فإنه لو لم يكن مكروهاً، لزم أحدُ ثلاثة أمور ممتنعة: أن يكون أحبَّ إلى اللَّه من صوم يوم وفطر يوم، وأفضل منه، لأنه زيادة عمل، وهذا مردود بالحديث الصحيح: (إنَّ أَحَبَّ الصِّيام إلى اللَّهِ صِيامُ داوُدَ)، وإنه لا أفضل منه، وإما أن يكون مساوياً له في الفضل وهو ممتنع أيضاً، وإما أن يكون مباحاً متساوىَ الطرفين لا استحبابَ فيه، ولا كراهة، وهذا ممتنع، إذ ليس هذا شأنَ العبادات، بل إما أن تكون راجحةً، أو مرجوحة .. واللَّه أعلم . فإن قيل: فقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وأَتْبَعَهُ سِتَّةَ أيَّامٍ مِنْ شَوَّال، فَكأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ) . وقال فيمن صام ثلاثة أيام من كل شهر: (إنَّ ذلِكَ يَعْدِلُ صَوْمَ الدَّهْرِ)، وذلك يدل على أنَّ صوم الدهر أفضلُ مما عُدِلَ به، وأنه أمرٌ مطلوب، وثوابُه أكثرُ من ثواب الصائمين، حتى شُبِّه به مَنْ صام هذا الصيام . قيل: نفسُ هذا التشبيه في الأمر المقدَّر، لا يقتضى جوازه فضلاً عن استحبابه، وإنما يقتضى التشبيه به في ثوابه لو كان مستحَباً، والدليل عليه، مِن نفس الحديث، فإنه جعل صيام ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر بمنزلة صيامِ الدهر، إذ الحسنةُ بعشر أمثالها، وهذا يقتضى أن يحصُل له ثوابُ مَن صام ثلاثمائة وستين يوماً، ومعلوم أن هذا حرامٌ قطعاً، فَعُلِمَ أنَّ المرادَ به حصولُ هذا الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوماً، وكذلك قولُه في صيام ستةِ أيام من شواَّل، إنه يَعْدِلُ مع صيام رمضان السنة، ثم قرأ: قيل: قد اختُلِف في معنى هذا الحديث . فقيل: ضُيِّقَتْ عليه حصراً له فيها، لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبتهِ عن هَدْى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واعتقاده أن غيرَه أفضل منه . وقال آخرون: بل ضُيِّقت عليه، فلا يبقى له فيها موضع، ورجَّحت هذه الطائفة هذا التأويل، بأن الصائم لما ضيَّق على نفسه مسالك الشهوات وطرقها بالصوم، ضيَّق اللَّه عليه النار، فلا يبقى له فيها مكان، لأنه ضيَّق طرقها عنه، ورجَّحت الطائفةُ الأولى تأويلها، بأن قالت: لو أراد هذا المعنى، لقال ضُيِّقَتْ عنه، وأما التضييق عليه، فلا يكون إلا وهو فيها . قالوا: وهذا التأويل موافق لأحاديث كراهة صوم الدهر، وأن فاعله بمنزلة مَن لم يصم. واللَّه أعلم . وكان صلى اللَّه عليه وسلم يدخل على أهله فيقول: (هَلْ عِنْدَكُم شَىْءٌ)؟ فإن قالوا: لا . قال: (إنِّى إذاً صَائِم)، فينشئ النية للتطوع من النهار، وكان أحياناً ينوى صوم التطوع، ثم يُفْطِرُ بعدُ، أخبرت عنه عائشة رضى اللَّه عنها بهذا وهذا، فالأول: في صحيح مسلم، والثانى: في كتاب النسائى . وأما الحديث الذي في السنن عن عائشة: كنتُ أنا وحفصةُ صائمتين، فَعَرَض لنا طعامٌ اشتهيناه، فَأَكَلْنَا مِنه، فجاء رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَبَدَرَتْنى إليه حَفْصَةُ، وكانت ابنَةَ أَبِيها، فقالت: يا رسول اللَّه ؛ إنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْن، فَعَرَضَ لنا طَعَامٌ اشتهيناه، فَأَكَلْنَا مِنْه فقال: (اقْضِيا يَوْماً مَكَانَهُ)، فهو حديث معلول . قال الترمذى: رواه مالك بن أنس، ومعمر، وعبد اللَّه بن عمر، وزياد بن سعد، وغير واحد من الحُفَّاظ، عن الزهرى، عن عائشة مرسلاً لم يذكروا فيه عن عروة، وهذا أصح . ورواه أبو داود، والنسائى، عن حَيْوَة بن شُريح، عن ابن الهاد، عن زُمَيْلٍ مولى عُروة، عن عروة، عن عائشة موصولاً، قال النسائى: زُميل ليس بالمشهور، وقال البخارى: لا يُعرف لزُميل سماع من عروة، ولا ليزيد بن الهاد من زُميل، ولا تقوم به الحُجَّة . وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان صائماً ونزل على قوم، أتمَّ صيامه، ولم يُفْطِرْ، كما دخل على أم سُلَيمٍ، فأتته بتمر وسمن، فقال: (أَعِيدوا سَمْنَكُم في سِقَائِه، وتَمْرَكُم في وِعَائِه، فإنِّى صَائِم) . ولكنَّ أمَّ سُلَيم كانت عنده بمنزلة أهل بيته، وقد ثبت عنه في (الصحيح): عن أبي هريرة رضى اللَّه عنه: (إذا دُعِىَ أَحَدُكُم إلى طعام وَهُوَ صائِمٌ فَلْيَقُلْ: إنِّى صَائِم) . وأما الحديثُ الذي رواه ابنُ ماجه، والترمذىُّ، والبيهقىُّ عن عائشة رضى اللَّه عنها ترفعُه : (مَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ، فَلاَ يَصُومَنَّ تَطَوُّعاً إلاَّ بإذْنِهِمْ)، فقال الترمذى: هذا الحديث منكر، لا نعرف أحداً من الثقات روى هذا الحديثَ عن هِشام بنِ عُروة . وكان من هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم، كراهةُ تخصيصِ يومِ الجُمْعَةِ بالصَّومِ فِعلاً منه وقولاً، فصح النهىُّ عن إفراده بالصَّوم، من حديث جابر بن عبد اللَّه، وأبي هريرة، وجُويرية بنت الحارث، وعبد اللَّه بن عمرو، وجُنادة الأزدى وغيرهم، وشرب يومَ الجمعة وهو على المنبر، يُريهم أنه لا يصومُ يومَ الجمعة، ذكره الإمام أحمد، وعلل المنع من صومه بأنه يومُ عيد، فروى الإمام أحمد، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (يَوْمُ الجُمْعَةِ يَوْمُ عِيدٍ، فَلاَ تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُم يَوْمَ صِيامِكُم إلاَّ أَنْ تَصُومُوا قَبْلَه أَوْ بَعْدَه) . فإن قيل: فيومُ العيد لا يُصام مع ما قبله ولا بعده . قيل: لما كان يومُ الجمعة مشبَّهاً بالعيد، أخذ من شبهه النهى عن تحرِّى صيامِه، فإذا صامَ ما قبله أو ما بعده، لم يكُنْ قد تحرَّاه، وكان حكمُه حكمَ صوم الشهر، أو العشر منه، أو صوم يومٍ، وفطر يوم، أو صوم يوم عرفة وعاشوراء إذا وافق يومَ جمعة، فإنه لا يُكره صومُه في شئ من ذلك . فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد اللَّه بن مسعود؟ قال (ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُفطِر في يَوْمِ الجُمُعَةِ) رواه أهل السنن. قيل: نقبله إن كان صحيحاً، ويتعيَّن حملُه على صومه مع ما قبله أو بعده، ونردُّه إن لم يصح، فإنه من الغرائب . قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب . لما كان صلاحُ القلبِ واستقامتُه على طريق سيره إلى اللَّه تعالى، متوقِّفاً على جمعيَّته على اللَّه، وَلَمِّ شَعثه بإقباله بالكليَّة على اللَّه تعالى، فإن شَعَثَ القلب لا يَلُمُّه إلا الإقبالُ على اللَّه تعالى، وكان فُضولُ الطعام والشراب، وفُضولُ مخالطة الأنام، وفضولُ الكلام، وفضولُ المنام، مما يزيدُه شَعَثاً، ويُشَتِّتُهُ في كُلِّ وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى اللَّه تعالى، أو يُضعِفُه، أو يعوقه ويُوقِفه . اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يُذهِبُ فضولَ الطعام والشراب، ويستفرِغُ مِن القلب أخلاطَ الشهواتِ المعوِّقة له عن سيره إلى اللَّه تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفعُ به العبد في دنياه وأُخراه، ولا يضرُّه ولا يقطعُه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصودُه وروحُه عكوفُ القلبِ على اللَّه تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحبه، والإقبالُ عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كُلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكُر في تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه باللَّه بدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوَحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . ولما كان هذا المقصود إنما يتمُّ مع الصوم، شُرِع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم يُنقل عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه اعتكف مفطراً قَطُّ، بل قد قالت عائشة: لا اعتكاف إلا بصوم . ولم يذكر اللَّهُ سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم . فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهورُ السَلَف: أن الصومَ شرطٌ في الاعتكاف، وهو الذي كان يُرجِّحه شيخُ الإسلام أبو العباس بن تيمية. وأما الكلامُ، فإنه شُرِعَ للأمة حبسُ اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة . وأما فُضول المنام، فإنه شُرِعَ لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبةً، وهو السهر المتوسِّطُ الذي ينفع القلبَ والبدن، ولا يَعُوقُ عن مصلحة العبد، ومدارُ رياضة أربابِ الرياضات والسلوكِ على هذه الأركان الأربعة، وأسعدُهم بها مَنْ سلك فيها المِنهاجَ النبوىَّ المحمدىَّ، ولم ينحرِفْ انحراف الغالين، ولا قصَّر تقصير المفرِّطين، وقد ذكرنا هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم في صيامه وقيامه وكلامه، فلنذكر هَدْيه في اعتكافه . كان صلى اللَّه عليه وسلم يعتكِف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفَّاه اللَّه عَزَّ وجَلَّ، وتركه مرة، فقضاه في شوَّال. واعتكف مرة في العشر الأول، ثم الأوسط، ثم العشر الأخير، يلتمس ليلة القدر، ثم تبيَّن له أنها في العشر الأخير، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عَزَّ وجَلَّ . وكان يأمر بخباءٍ فيُضرب له في المسجد يخلُو فيه بربه عَزَّ وجَلَّ . وكان إذا أراد الاعتكاف، صلَّى الفجر، ثم دخله، فأمر به مرة، فَضُرِب فأمر أزواجه بأخبيتِهنَّ، فضُرِبت، فلما صلَّى الفجر، نظر، فرأى تلك الأخبية، فأمر بخبائه فَقُوِّضَ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوَّال . وكان يعتكِفُ كل سنة عشرة أيام، فلما كان في العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يوماً، وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنةٍ مرة، فلما كان ذلك العام عارضة به مرَّتين، وكان يَعْرِضُ عليه القرآن أيضاً في كل سنة مرة فعرض عليه تلك السنة مرَتَّين . وكان إذا اعتكف، دخل قُبَّته وحدَه، وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان، وكان يُخْرِجُ رأسه من المسجد إلى بيت عائشة، فترجِّله، وتغسله وهو في المسجد وهى حائض، وكانَتْ بعضُ أزواجه تزورُه وهو معتكِفٌ، فإذَا قامت تذهبُ، قامَ معها يَقْلِبُها، وكان ذلك ليلاً، ولم يُباشر امرأة مِن نسائه وهو معتكف لا بِقُبلَةٍ ولا غيرها، وكان إذا اعتكف طُرِحَ له فراشُه، ووضِع له سريرُه في معتكفه، وكان إذا خرج لحاجته، مرَّ بالمريض وهو على طريقه، فلا يُعرِّجُ عليه ولا يَسْأَلُ عنه . واعتكف مرة في قبة تُركية، وجعل على سدتها حصيراً، كلّ هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه، عكسَ ما يفعلُه الجهالُ من اتخاذ المعتكف موضِعَ عِشْرة، ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوى لون . واللَّه الموفق . العمرة اعتمر صلى اللَّه عليه وسلم بعدَ الهِجرة أرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ في ذى القعْدة، الأولى: عُمرةُ الحُديْبِيَة، وهى أولاهُن سنةَ سِت، فصدَّه المشركون عن البيت، فنحرَ البُدْنَ حيثُ صُدَّ بالحُديبيةِ، وحَلَقَ هو وأصحابُه رؤوسهم، وحلُّوا من إحرامهم، ورجع مِن عامه إلى المدينة. الثانية: عُمْرَةُ القَضِيَّةِ في العام المقبل، دخل مكة فأقام بها ثلاثاً، ثمَّ خَرَجَ بعد إكمال عُمرتِه، واختُلِف: هل كانت قضاءً للعُمرة التي صُدَّ عنها في العام الماضى، أم عُمرةً مستأنَفة؟ على قولين للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهُما: أنها قضاء، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه . والثانية: ليست بقضاء، وهو قول مالك رحمه اللَّه، والذين قالوا: كانت قضاءً، احتجوا بأنها سميت عُمرة القضاء، وهذا الاسم تابع للحكم، وقال آخرون: القضاء هنا، من المقاضاة، لأنه قاضى أهلَ مكة عليها، لا إنه مِنْ قَضَى قَضَاءً . قالوا: ولهذا سميَّت عُمرةَ القضيَّة . قالوا : والذين صُدُّوا عن البيت، كانوا ألفاً وأربعمائة، وهؤلاء كلُّهم لم يكونوا معه في عُمرة القضية، ولو كانت قضاءً، لم يتخلَّف منهم أحد، وهذا القولُ أصح، لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يأمُرْ مَن كان معه بالقضاء. الثالثة: عُمرتُه التي قرنها مع حَجَّتِه، فإنه كان قارناً لبضعة عشر دليلاً، سنذكرها عن قريب إن شاء اللَّه . الرابعة: عُمرتُه من الجِعْرَانَةِ، لما خرج إلى حُنين، ثم رجع إلى مكة، فاعتمر مِن الجِعْرَانَةِ داخلاً إليها . ففي الصحيحين عن أنس بنِ مالك قال: (اعتمَر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ في ذِى القِعْدَةِ، إلاَّ التي كانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةٌ مِنَ الحُدَيْبيةِ أو زَمَنَ الحُدَيْبِيةِ في ذى القِعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنَ العَامِ المُقْبل في ذى القِعْدَةِ، وعُمْرَةٌ مِنَ الجِعْرانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِم حُنَيْنٍ في ذى القعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِه). ولم يُناقِضَ هذا ما في (الصحيحين) عن البَّراء بن عازب قال: (اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذى القعْدَةِ قبل أن يحجَّ مرتين)، لأنه أراد العُمْرة المفردَة المستقِلَّة التي تمَّت، ولا ريب أنهما اثنتانِ، فإن عُمرة القِران لم تكن مستقِلَّةٌ، وعُمرَة الحديبية صُدَّ عنها، وحيل بينه وبين إتمامها، ولذلك قال ابنُ عباس: (اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ: عُمْرَةَ الحُدَيْبِية، وعمرُةَ القضاءِ مِنْ قابل، والثالثة من الجِعْرَانَةِ، والرابِعة مع حَجَّته). ذكره الإمام أحمد. ولا تناقض بين حديث أنس: (أنهن في ذى القِعْدة، إلا التي مع حَجَّته)، وبينَ قول عائشة، وابن عباس:(لم يعتمِر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا في ذى القِعْدَة)، لأن مبدأ عُمْرة القِران، كان في ذى القِعْدة، ونهايتُها كان في ذى الحِجة مع انقضاء الحج، فعائشة وابن عباس أخبرا عن ابتدائها، وأنس أخبر عن انقضائها . فأما قول عبد اللَّه بن عمر (إن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعاً، إحداهُن في رجب). فوهم منه رضى اللَّه عنه . قالت عائشة لما بلغها ذلك عنه (يرحم اللَّه أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عُمرةً قطُّ إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط) . وأما ما رواه الدارقطنى، عن عائشة قالت: (خرجتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في عُمرة في رمضان فأفطَر وصُمتُ، وقصَر وأتممتُ، فقلتُ: بأبي وأُمى، أفطرتَ وصمتُ، وقَصَرْتَ وأتممتُ، فقال: (أحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ) . فهذا الحديث غلط، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يعتمِرْ في رمضان قطُّ، وعُمَرُهُ مضبوطةُ العددِ والزمان، ونحن نقول: يرحَمُ اللَّه أُمَّ المؤمنين، ما اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في رمضان قطُّ، وقد قالت عائشةُ رضى اللَّه عنها (لم يعتمِرْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا في ذى القعدة) . رواه ابن ماجه وغيره. ولا خلاف أن عُمَرَهُ لم تَزِد على أربع، فلو كان قد اعتمر في رجب، لكانت خمساً، ولو كان قد اعتمر في رمضان، لكانت ستاً، إلا أن يُقال: بعضُهن في رجب، وبعضهن في رمضان، وبعضُهن في ذى القِعْدة، وهذا لم يقع، وإنما الواقع: اعتمارُه في ذى القِعْدة كما قال أنس رضى اللَّه عنه، وابن عباس رضى اللَّه عنه، وعائشة رضى اللَّه عنها، وقد روى أبو داود في سننه عن عائشة، (أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوَّال) . وهذا إذا كان محفوظاً فلعلَّه في عُمرة الجِعْرَانَةِ حين خرج في شوَّال، ولكن إنما أحرم بها في ذى القِعْدة . ولم يكن في عُمْرِهِ عُمْرَةٌ واحِدة خارجاً من مكة كما يفعلُ كثيرٌ من الناس اليوم، وإنما كانت عُمَرُهُ كُلُّها داخلاً إلِى مكة، وقد أقام بعد الوحى بمكة ثلاث عشرة سنة لم يُنقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة في تلك المدة أصلاً . فالعُمْرة التي فعلها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وشرعها، هي عُمْرةُ الداخل إلى مكة، لا عُمْرةُ مَن كان بها فيخرُج إلى الحل لِيعتمرَ، ولم يفعل هذا على عهده أحد قطُّ إلا عائشة وحدها بين سائر مَن كان معه، لأنها كانت قد أُهلَّت بالعُمرة فحاضت، فأمرها، فأدخلت الحجَّ على العُمرة، وصارت قارِنة، وأخبرها أنَّ طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعُمْرتها، فوجدت في نفسها أن يَرجعَ صواحباتها بحج وعُمْرة مستقلين، فإنهنَّ كنَّ متمتعات ولم يحضن ولم يقرِنَّ، وترجعُ هي بعُمْرة في ضمن حَجَّتها، فأمر أخاها أن يُعمِرَها من التنعيم تطييباً لقلبها، ولم يعتمِرْ هو من التنعيم في تلك الحجَّة ولا أحد ممن كان معه، وسيأتى مزيد تقرير لهذا وبسط له عن قريب إن شاء اللَّه تعالى . دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة بعد الهجرة خمسَ مرات سِوى المرةِ الأولى، فإنه وصل إلى الحُديبية، وصُدَّ عن الدخول إليها، أحرم في أربع مِنهنَّ مِن الميقات لا قبله، فأحرم عام الحُديبية من ذى الحُليفة، ثم دخلها المرة الثانية، فقضى عُمْرته، وأقام بها ثلاثاً، ثم خرج، ثم دخلها في المرة الثالثة عامَ الفتح في رمضان بغير إحرام، ثم خرج منها إلى حُنين، ثم دخلها بعُمْرة من الجِعرانة ودخلها في هذه العُمْرة ليلاً، وخرج ليلاً، فلم يخرج من مكة إلى الجِعرانة ليعتمِر كما يفعلُ أهلُ مكة اليوم، وإنما أحرم منها في حال دخوله إلى مكة، ولما قضى عُمْرته ليلاً، رجع من فوره إلى الجِعرانة، فبات بها، فلما أصبح وزالتِ الشمسُ، خرج من بطن سَرِفَ حتى جامَع الطريق [طريق جَمْعٍ بِبَطْنِ سَرِف]، ولهذا خفيت هذه العُمرة على كثير من الناس. والمقصود، أن عُمَرَهُ كلَّها كانت في أشهر الحج، مخالفةً لهَدْى المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العُمْرة في أشهر الحج، ويقولون: هي من أفجر الفجُور، وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضلُ منه في رجب بلا شك . وأما المفاضلةُ بينه وبين الاعتمار في رمضان، فموضع نظر، فقد صح عنه أنه أمر أم مَعقِل لما فاتها الحجُ معه، أن تعتمِرَ في رمضان، وأخبرها أَنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّة . وأيضاً: فقد اجتمع في عُمْرة رمضان أفضلُ الزمان، وأفضلُ البقاع، ولكنَّ اللَّه لم يكن لِيختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عُمَرِهِ إلاَّ أولى الأوقات وأحقَّها بها، فكانت العُمْرةُ في أشهر الحج نظيرَ وقوع الحج في أشهره، وهذه الأشهر قد خصَّها اللَّه تعالى بهذه العبادة، وجعلها وقتاً لها، والعمرةُ حجٌّ أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهرُ الحج، وذو القِعْدة أوسطُها، وهذا مما نستخير اللَّه فيه، فمَن كان عنده فضلُ علم، فليرشد إليه . وقد يُقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يشتغِل في رمضان مِن العبادات بما هو أهمُّ مِن العُمْرة، ولم يكن يُمكنه الجمعُ بين تلك العبادات وبينَ العُمرة، فأخَّر العُمرة إلى أشهر الحج ووفَّر نفسه على تلك العبادات في رمضانَ مع ما في ترك ذلك من الرحمة بأُمته والرأفة بهم، فإنه لو اعتمرَ في رمضان، لبادرت الأُمة إلى ذلك، وكان يشُقُّ عليها الجمعُ بين العُمْرةِ والصومِ، ورُبما لا تسمح أكثرُ النفوس بالفطر في هذه العبادة حرصاً على تحصيل العُمْرة وصومِ رمضان، فتحصُل المشقةُ، فأخَّرها إلى أشهر الحج، وقد كان يترُك كثيراً من العمل وهو يُحب أن يعمله، خشية المشقة عليهم . ولما دخل البيت، خرج منه حزيناً، فقالت له عائشة في ذلك؟ فقال: (إنِّى أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلى أُمّتى)، وهمَّ أن ينزل يستسقى مع سُقاة زمزم للحاج، فخاف أن يُغْلَب أَهلُها على سِقايتهم بعده . واللَّه أعلم . ولم يُحفظ عنه صلى اللَه عليه وسلم، أنه اعتمر في السنة إلا مرَّة واحدة، ولم يعتمِرُ في سنة مرتين، وقد ظن بعضُ الناس أنه اعتمَرَ في سنة مرتين، واحتج بما رواه أبو داود في سننه عن عائشة،(أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، اعتمَرَ عُمْرَتَين: عُمْرة في ذى القِعْدة، وعُمْرة في شوّال) . قالوا: وليس المرادُ بها ذكرَ مجموع ما اعتمر، فإن أنساً، وعائشة، وابن عباس، وغيرهم قد قالوا: إنه اعتمر أربَعَ عُمَرٍ، فعُلِمَ أن مُرادَها به أنه اعتمر في سنة مرتين، مرة في ذى القِعْدة، ومرة في شوَّال، وهذا الحديث وهم، وإن كان محفوظاً عنها، فإن هذا لم يقع قطُّ، فإنه اعتمرَ أربع عُمَرٍ بلا ريب: العُمْرةُ الأولى كانت في ذى القِعْدة عُمرة الحديبية، ثم لم يعتمِرْ إلى العام القابل، فاعتمر عُمْرة القضية في ذى القِعْدة، ثم رجع إلى المدينة ولم يخرُج إلى مكة حتى فتحها سنةَ ثمان في رمضان، ولم يعتمِرْ ذلك العام، ثم خرج إلى حُنين في ست من شوَّال وهزَم اللَّه أعداءه، فرجع إلى مكة، وأحرم بعُمْرة، وكان ذلك في ذى القِعْدة كما قال أنس وابنُ عباس، فمتى اعتمر في شوال؟ ولكن لقى العدوَّ في شوَّال، وخرج فيه من مكة، وقضى عُمرته لما فرغ من أمر العدوِّ في ذى القِعْدة ليلاً، ولم يَجْمَعْ ذلك العامَ بين عُمرتين، ولا قَبلَه ولا بعدَه، ومَنْ له عِناية بأيامه صلى اللَّه عليه وسلم وسيرته وأحواله، لا يشكُّ ولا يرتابُ في ذلك . فإن قيل: فبأى شئ يستحِبُّون العُمْرة في السنة مِراراً إذا لم يُثبتوا ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم؟ قيل: قد اختُلِف في هذه المسألة، فقال مالك: أكره أن يعتمِرَ في السنة أكثرَ من عُمرة واحدة، وخالفه مُطرِّف من أصحابه وابنُ المَوَّاز، قال مطرِّف: لا بأس بالعُمرة في السنة مِراراً، وقال ابن الموَّاز: أرجو أن لا يكون به بأس، وقد اعتمرت عائشةُ مرَّتين في شهر، ولا أرى أن يُمنع أحدٌ من التقرب إلى اللَّه بشئ من الطاعات، ولا من الازدياد من الخير في موضع، ولم يأت بالمنع منه نص، وهذا قولُ الجمهور، إلا أن أبا حنيفة- رحمه اللَّه تعالى- استثنى خمسة أيام لا يُعتمر فيها: يوم عرفة، ويومَ النحر، وأيام التشريق، واستثنى أبو يوسف رحمه اللَّه تعالى: يومَ النحر، وأيامَ التشريق خاصة، واستثنت الشافعية البائِت بمِنَى لرمى أيام التشريق . واعتمرت عائشة في سنة مرتين . فقيل للقاسم: لم ينكر عليها أحد؟ فقال: أََعَلى أُمِّ المؤمنين؟، وكان أنس إذا حَمَّمَ رَأْسَه، خرج فاعتمر . ويُذكر عن علىٍّ رضى اللَّه عنه، أنه كان يعتمر في السنة مِراراً، وقد قال صلى اللَّه عليه وسلم: (العُمَرَةُ إلى العُمْرَة كَفَّارَةٌ لما بَيْنَهُمَا) . ويكفى في هذا، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم، أعمرَ عائشة من التَّنعيم سوى عمرتِها التي كانت أهلَّت بها، وذلك في عامٍ واحد، ولا يُقال: عائشة كانت قد رفضت العُمْرة، فهذه التي أهلَّت بها من التنعيم قضاء عنها، لأن العُمْرة لا يَصِحُ رفضُها . وقد قال لها النبى صلى الله عليه وسلم: (يَسَعُكِ طَوَافُك لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِك) وفى لفظ: (حَلَلْتِ مِنْهمَا جَميعاً) . فإن قيل: قد ثبت في صحيح البخارى: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال لها: (ارفُضى عُمْرَتَك وانقُضى رَأْسَكِ وامْتَشِطى)، وفى لفظ آخر: (انقُضى رَأسَكِ وامتشطى)، وفى لفظ: (أَهِلِّى بالحَجِّ، ودَعى العُمْرَة)، فهذا صريح في رفضها من وجهين، أحدهما: قوله: (ارفُضيها ودعيها)، والثانى: أمره لها بالامتشاط . قيل: معنى قوله: (ارفُضيها): اتركى أفعالها والاقتصار عليها، وكونى في حَجَّة معها، ويتعين أن يكونَ هذا هو المراد بقوله: (حَلَلْتِ مِنْهُما جَمِيعاً)، لما قضت أعمالَ الحج، وقوله: (يَسَعُكِ طَوافُكِ لِحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ)، فهذا صريح في أن إحرام العُمْرة لم يُرفض، وإنما رُفضَتْ أعمالُها والاقتصارُ عليها، وأنها بانقضاء حجَّها انقضى حجُّها وعمرتُها، ثم أعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها، إذ تَأتى بعُمْرة مستقِلَّة كصواحباتها، ويوضح ذلك إيضاحاً بيِّناً، ما روى مسلم في (صحيحه)، من حديث الزهرى، عن عروة، عنها قالت: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع، فحِضتُ، فلم أزل حائضاً حتى كان يومُ عرفة، ولم أُهِلَّ إلاَّ بعُمرة، فأمرنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أنقُضَ رأسى وامتشِطَ، وأُهِلَّ بالحج، وأترك العُمْرة، قالت: ففعلتُ ذلك، حتى إذا قضيتُ حَجِّى، بعث معى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، وأمرنى أن أعتمِرَ من التنعيم مكانَ عُمرتى التي أدركنى الحجُّ ولم أُهِلَّ منها . فهذا حديثٌ في غاية الصحة والصراحة، أنها لم تكن أحلَّت من عُمْرتها، وأنها بقيت مُحْرِمة حتى أدخلت عليها الحجّ، فهذا خبرُها عن نفسها، وذلك قولُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لها، كُلٌّ منهما يوافق الآخر، وباللَّه التوفيق . وفى قوله صلى اللَّه عليه وسلم: (العُمْرةُ إلى العُمْرةِ كفَّارةٌ لما بينهما، والحَجُّ المبرورُ ليس له جزاء إلا الجنة) دليلٌ على التفريق بين الحج والعُمْرة في التكرار، وتنبيهٌ على ذلك، إذ لو كانت العمرةُ كالحج، لا تُفعل في السنة إلا مرة، لسًوَّى بينهما ولم يُفرِّق . وروى الشافعى رحمه اللَّه، عن علىّ رضى اللَّه عنه، أنه قال: اعْتَمِرْ في كل شهر مرة . وروى وكيع، عن إسرائيل، عن سُويد بن أبي ناجية، عن أبي جعفر، قال: قال علىُّ رضى اللَّه عنه: (اعْتَمِرْ في الشَّهْرِ إنْ أَطَقْتَ مراراً). وذكر سعيد بن منصور، عن سفيان بن أبي حسين، عن بعض ولد أنس، أن أنساً كان إذا كان بمكة فَحَمَّمَ رَأْسُهُ، خَرَجَ إلى التَّنْعِيمِ فاعْتَمَرَ . لا خلاف أنَّه لم يَحُجَّ بعد هجرته إلى المدينة سِوى حَجَّةٍ واحدة، وهى حَجة الوَداع، ولا خلاف أنها كانت سنةَ عشر . واختُلِفَ: هل حجَّ قبل الهجرة؟ فروى الترمذى، عن جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنه، قال: (حجَّ النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثَ حِجج، حَجَّتَيْن قبل أن يُهاجر، وحَجَّة بعد ما هاجر معها عُمْرة) . قال الترمذى: هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال: وسألتُ محمداً يعنى البخارى عن هذا، فلم يعرفه من حديث الثورى، وفى رواية: لا يُعدُّ الحديث محفوظاً . ولما نزل فرضُ الحج . بادر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الحجِّ من غير تأخير، فإنَّ فرضَ الحج تأخَّر إلى سنة تسع أو عشر، وأما قوله تعالى: ولما عزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الحجِّ أعلم الناس أنه حاج، فتجهزوا للخروج معه، وسمِع ذلك مَنْ حول المدينة، فَقَدِمُوا يُريدون الحجَّ مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ووافاه في الطريق خلائقُ لا يُحصَون، فكانُوا مِن بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مدَّ البصر، وخرجَ من المدينة نهاراً بعد الظهر لِسِتٍّ بَقِينَ مِن ذى القِعْدةِ بعد أن صلَّى الظهرَ بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خُطبةً علَّمهم فيها الإحرام وواجباتِه وسننه . وقال ابن حزم: وكان خروجُه يومَ الخميس، قلتُ: والظاهر: أن خروجَه كان يوم السبت، واحتج ابنُ حزم على قوله بثلاث مقدمات، إحداها: أن خروجه كان لِسِتٍّ بَقِينَ من ذى القعدة، والثانية: أن استهلال ذى الحِجة كان يومَ الخميس، والثالثة: أن يوم عرفة كان يومَ الجمعة، واحتج على أن خروجه كان لسِت بقين من ذى القِعْدة، بما روى البخارى من حديث ابن عباس: (انطلق النبىُّ صلى الله عليه وسلم مِن المدينة بعد ما تَرَجَّلَ وادَّهَنَ ...) فذكر الحديث، وقال:وذلك لخمس بَقين من ذِى القِعْدة . قال ابن حزم: وقد نصَّ ابنُ عمر على أن يَوْمَ عرفة، كان يَوْمَ الجمعة، وهو التاسع، واستهلال ذى الحِجة بلا شك ليلة الخميس، فآخر ذى القِعْدة يوم الأربعاء، فإذا كان خرُوجُه لسِتِّ بَقين من ذى القِعْدة، كان يومَ الخميس، إذ الباقى بعده ستُّ ليالٍ سواه . ووجه ما اخترناه، أن الحديث صريحٌ في أنه خرج لِخمسٍّ بَقين وهى: يوم السبت، والأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فهذه خمس، وعلى قوله: يكون خروجه لسبعٍّ بقين . فإن لم يَعِدْ يوم الخروج، كان لستٍّ، وأيُّهما كان، فهو خلافُ الحديث . وإن اعتبر الليالى، كان خروجُه لسِت ليال بقين لا لخمس، فلا يَصِحُّ الجمعُ بين خروجه يوم الخميس، وبينَ بقاء خمس من الشهر البتة، بخلافِ ما إذا كان الخروجُ يوم السبت، فإن الباقى بيوم الخروج خمسٌ بلا شك، ويدلُّ عليه أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته على مِنبره شأن الإحرام، وما يلبَسُ المحرِمُ بالمدينة، والظاهر: أن هذا كان يومَ الجمعة، لأنه لم يُنقل أنه جمعهم، ونادى فيهم لحضور الخُطبة، وقد شهد ابنُ عمر رضى اللَّه عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره . وكان مِن عادته صلى اللَّه عليه وسلم أن يُعلِّمهم في كلِّ وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله، فأولى الأوقات به الجمعة التي يليها خروجُه، والظاهر: أنه لم يكن لِيدَعَ الجمعة وبينه وبينها بعضُ يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلقُ، وهو أحرصُ الناس على تعليمهم الدِّين، وقد حضر ذلك الجمع العظيم، والجمعُ بينه وبين الحج ممكنٌ بلا تفويت، واللَّه أعلم . ولما علم أبو محمد بن حزم، أن قول ابن عباس رضى اللَّه عنه، وعائشة رضى اللَّه عنها: خرج لخمس بَقين من ذى القِعْدة، لا يلتئمُ مع قوله أوَّله بأن قال: معناه أن اندفاعه من ذِى الحُليفة كان لخمس، قال: وليس بين ذى الحُليفة وبين المدينة إلا أربعةُ أميال فقط، فلم تُعَدْ هذه المرحلة القريبة لِقلَّتها، وبهذا تأتلِف جميعُ الأحاديث . قال: ولو كان خروجُه من المدينة لخمسٍ بقين لذى القِعْدة، لكان خروجُه بلا شك يَوْمَ الجمعة، وهذا خطأ، لأن الجمعة لاتصلَّى أربعاً، وقد ذكر أنس، أنهم صلُّوا الظهر معه بالمدينة أربعاً . قال: ويزيده وضوحاً، ثم ساق من طريق البخارى، حديث كعب بن مالك: (قلَّما كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرُج في سفر إذا خرج، إلا يومَ الخميس)، وفى لفظ آخر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُحب أن يخرُج يومَ الخميس، فبطل خروجه يومَ الجمعة لما ذكرنا عن أنس، وبطل خروجُه يوم السبت، لأنه حينئذ يكون خارجاً من المدينة لأربعٍ بَقين من ذى القِعدة، وهذا ما لم يقله أحد . قال: وأيضاً قد صحَّ مبيتُه بذى الحُليفة الليلَة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة، فكان يكون اندفاعه من ذى الحُليفة يوم الأحد، يعنى: لو كان خروجُه يوم السبت، وصح مبيتُه بذى طُوى ليلةَ دخوله مكة، وصحَّ عنه أنه دخلها صُبح رابعة من ذى الحِجَّة، فعلى هذا تكونُ مدةُ سفره من المدينة إلى مكة سبعةَ أيام، لأنه كان يكون خارجاً من المدينة لو كان ذلك لأربع بَقين لِذى القِعْدة، واستوى على مكة لثلاث خَلَوْنَ من ذى الحِجة، وفى استقبال الليلة الرابعة، فتلك سبعُ ليالٍ لا مزيد، وهذا خطأ بإجماع، وأمرٌ لم يقله أحد، فصحَّ أن خروجه كان لِستٍ بقين من ذى القِعْدة وائتلفت الرواياتُ كلُّها، وانتفى التعارُض عنها بحمد اللَّه، انتهى . قلت: هي متآلفة متوافقة، والتعارض مُنتفٍ عنها مع خروجه يومَ السبت، ويزولُ عنها الاستكراه الذي أوَّلها عليه كما ذكرناه . وأما قول أبي محمد بن حزم:(لو كان خروجُه من المدينةِ لخمسٍ بَقين من ذى القِعْدة، لكان خروجُه يومَ الجمعة ...) إلى آخره فغيرُ لازم، بل يصح أن يخرُج لخمس، ويكون خروجه يوم السبت، والذي غرَّ أبا محمد أنه رأى الراوى قد حذف التاء من العدد، وهى إنما تُحذف من المؤنث، ففهم لخمس ليال بقين، وهذا إنما يكون إذا كان الخروجُ يوم الجمعة، فلو كان يوم السبت، لكان لأربع ليال بقين، وهذا بعينه ينقلِبُ عليه، فإنه لو كان خروجُه يوم الخميس، لم يكن لخمس ليال بقين، وإنما يكون لست ليال بقين، ولهذا اضطر إلى أن يُؤوِّل الخروج المقيَّد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذى الحُليفة، ولا ضرورة له إلى ذلك، إذ من الممكن أن يكون شهرُ ذى القِعْدة كان ناقصاً، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناءً على المعتاد من الشهر، وهذه عادةُ العرب والناس في تواريخهم، أن يُؤرِّخُوا بما بقى من الشهر بناءً على كماله، ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه، وظهور نقصه كذلك، لئلا يختلِف عليهم التاريخُ، فيصِحُّ أن يقول القائلُ: يوم الخامس والعشرين، كتب لخمس بقين، ويكون الشهر تسعاً وعِشرين، وأيضاً فإن الباقى كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج، والعرب إذا اجتمعت الليالى والأيام في التاريخ، غلَّبت لفظَ الليالى لأنها أولُ الشهر، وهى أسبقُ من اليوم، فتذكر الليالى، ومرادُها الأيام، فيصِحُّ أن يُقال: لخمسٍ بَقين باعتبار الأيام، ويُذكَّر لفظ العدد باعتبار الليالى، فصحَّ حينئذ أن يكون خروجه لخمسٍ بقين، ولا يكون يوم الجمعة . وأما حديثُ كعب، فليس فيه أنه لم يكن يخرُج قطُّ إلا يومَ الخميس، وإنما فيه أن ذلك كان أكثرَ خروجه، ولا ريب أنه لم يكن يتقيَّد في خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس . وأما قوله: لو خرج يومَ السبت، لكان خارجاً لأربع، فقد تبيَّن أنه لا يلزم، لا باعتبار الليالى، ولا باعتبار الأيام . وأما قوله: (إنه بات بذى الحُليفة الليلة المستقبَلَة مِن يوم خروجه من المدينة).. إلى آخره، فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدةُ سفره سبعة أيام، فهذا عجيبٌ منه، فإنه إذا خرج يومَ السبت وقد بقى من الشهر خمسةُ أيام، ودخل مكة لأربع مَضين مِن ذى الحِجة، فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام، وهذا غيرُ مشكل بوجه من الوجوه، فإن الطريق التي سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار، وسيرُ العرب أسرعُ من سير الحضر بكثير، ولا سيما مع عدم المحامل والكجاوات والزوامِل الثِّقال ... واللَّه أعلم . عدنا إلى سياق حَجِّه، فصلَّى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعاً، ثم ترجَّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذى الحُليفة، فصلَّى بها العصر ركعتين، ثم بات بها وصلَّى بها المغرب، والعشاء، والصبح، والظهر، فصلَّى بها خمس صلوات، وكان نساؤه كُلُّهن معه، وطاف عليهن تِلك الليلة، فلما أراد الإحرام، اغتسل غُسلاً ثانياً لإحرامه غير غُسل الجِماع الأول، ولم يذكر ابن حزم أنه اغتسل غير الغُسل الأول للجنابة، وقد ترك بعضُ الناس ذِكره، فإما أن يكون تركه عمداً، لأنه لم يثبت عنده، وإما أن يكون تركه سهواً منه، وقد قال زيدُ بن ثابت:(إنه رأى النبىَّ صلى الله عليه وسلم تجرَّد لإهلاله واغتسل) . قال الترمذى: حديث حسن غريب . وذكر الدارقطنى، عن عائشة قالت: (كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِمَ، غسل رأسه بخطمى وأُشْنَان . ثم طيَّبته عائشة بيدها بِذَرِيرَةٍ وطيبٍ فيه مسك في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص المِسك يُرى في مفارقه ولِحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلَّى الظهر ركعتين، ثم أهَلَّ بالحجِّ والعُمرة في مصلاه)، ولم يُنقل عنه أنه صلَّى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. وقلَّد قبل الإحرام بُدنه نعلين، وأشعرَها في جانبها الأيمن، فشقَّ صفحةَ سَنامِها، وسَلَتَ الدَّمَ عنها وإنما قلنا: إنه أحرم قارناً لِبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك . أحدها: ما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر، قال:(تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع بالعُمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهَدْىَ مِن ذى الحُليفة، وبدأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأَهَلَّ بالعُمرة، ثم أهلَّ بالحجَّ....) وذكر الحديث . وثانيها: ما أخرجاه في الصحيحين أيضاً، عن عروة، عن عائشة أخبرته عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث ابن عمر سواء . وثالثها: ما روى مسلم في صحيحه من حديث قُتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أنَّه قرن الحجَّ إلى العُمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً، ثم قال: (هكذا فعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم) . ورابعها: ما روى أبو داود، عن النفيلى، حدثنا زهير هو ابن معاوية حدثنا إسحاق عن مجاهد (سئل ابنُ عمر: كم اعتمرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: مرتين . فقالت عائشةُ: لقد عَلِمَ ابنُ عمر أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سِوى التي قرن بحَجَّته) . ولم يُناقض هذا قولَ ابن عمر: (إنَّه صلى اللَّه عليه وسلم، قرن بين الحجِّ والعُمرة)، لأنه أراد العُمْرة الكاملة المفردة، ولا ريب أنهما عُمرتان: عُمرةُ القضاء وعُمرةُ الجِعرانة، وعائشة رضى اللَّه عنها أرادت العُمْرتين المستقلَّتَيْنِ، وعُمرَة القِران، والتي صُدَّ عنها، ولا ريب أنها أربع . وخامسها: ما رواه سفيان الثورى، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (حجَّ ثلاثَ حِجج: حَجَّتينِ قبل أن يُهاجر، وحَجَّة بعد ما هاجر معها عُمرة) رواه الترمذى وغيره. وسادسها: ما رواه أبو داود، عن النُّفيلى، وقتيبة قالا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: (اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أربعَ عُمَرٍ: عُمرةَ الحُديبية، والثانية: حين تواطؤُوا على عُمرةٍ مِن قابل، والثالثة من الجِعرانة، والرابعة التي قرن مع حَجَّته) . وسابعها: ما رواه البخارى في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بوادى العَقيق يقول: (أتانى اللَّيْلَة آتٍ مِنْ رَبِّى عَزَّ وجلَّ، فقال: صَلِّ في هَذَ الوَادى المُبارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ في حَجَّةٍ). وثامنها: ما رواه أبو داود عن البرَّاء بن عازب قال: (كنت مع علىٍّ رضى اللَّه عنه حين أَمَّرَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على اليمن، فأصبتُ معه أَوَاقىَّ مِن ذهَبٍ، فلما قَدِمَ علىٌّ من اليمن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: وجدتُ فاطمة رضى اللَّه عنها قد لَبِسَتْ ثياباً صَبِيغَات، وقد نضحت البيت بِنَضُوحٍ، فقالت: مالك؟ فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابَه فأحَلُّوا، قال: فقلتُ لها: إنى أهللتُ بإهلال النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: فأتيتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال لى: (كيف صنعتَ)؟ قال: قُلتُ: أهللتُ بإهلال النبىَّ صلى الله عليه وسلم، قال: (فإنى قد سُقْتُ الهَدْىَ، وقَرَنْتُ...)، وذكر الحديث . وتاسعها: ما رواه النسائى عن عمران بن يزيد الدمشقى، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن مسلم البطين، عن علىّ بن الحُسين، عن مروان بن الحكم قال: (كنتُ جالساً عند عثمان، فسمع علياً رضى اللَّه عنه يُلبِّى بِعُمرة وحَجَّةٍ، فقال: ألم تَكُن تُنْهَى عَنْ هَذَا؟ قال: بلَى لكنى سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُلَبِّى بهما جميعاً، فلم أدَعْ قولَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِكَ). وعاشرها: ما رواه مسلم في صحيحه مِن حديث شُعبة، عن حُميد بن هِلال قال: سمعتُ مُطرِّفاً قال: قال عمران بن حصين: أُحدِّثك حديثاً عسى اللَّهُ أن ينفعكَ به: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (جمع بين حَجَّةٍ وعُمْرة، ثم لم يَنْهَ عنه حتَّى ماتَ، ولم يَنْزِلْ قُرآن يُحرِّمُ). وحادى عشرها: ما رواه يحيى بن سعيد القطان، وسفيان بن عُيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه قال: (إنما جَمَعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الحجِّ والعُمْرة، لأنه علم أنه لا يَحُجُّ بَعدها) . وله طرق صحيحة إليهما . وثانى عشرها: ما رواه الإمام أحمد من حديث سُراقة بنِ مالك قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ)، قَالَ: وَقَرَنَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوَادَعِ . إسناده ثقات. وثالثُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث أبي طَلحَةَ الأنصارِىّ(أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَة) ورواه الدارقطنى، وفيه الحجاج بن أرطاة . ورابعُ عشرها: ما رواه أحمد مِن حديث الهرْمَاس بن زياد الباهلى(أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرن في حَجَّةِ الوَادَعِ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَة) . وخامسُ عشرها: ما رواه البزار بإسناد صحيح أن ابن أبي أوفى قال: (إنما جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الحجِّ والعُمْرَة، لأنه علم أنه لا يحُجُّ بعد عامِه ذلك) وقد قيل: إن يزيد بن عطاء أخطأ في إسناده، وقال آخرون: لا سبيلَ إلى تخطئته بغير دليل . وسادسُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، مِن حديث جابر بن عبد اللَّه،(أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ الحَجَّ والعُمْرَةَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافاً واحِداً). ورواه الترمذى، وفيه الحجاجُ بنُ أرطاة، وحديثُه لا ينزِل عن درجةِ الحَسَنِ ما لم ينفرِدْ بشئ، أو يُخالف الثِّقات . وسابعُ عشرها: ما رواه الإمام أحمد، من حديث أُمِّ سلمة قالت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقُول: (أَهِلُّوا يا آلَ مُحَمَّدٍ بِعُمْرَةٍ في حَجٍّ) . وثامن عشرها: ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ لمسلم، عن حفصةَ قالت: قلتُ للنبى صلى الله عليه وسلم: ما شأنُ النَّاسِ حلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قال: (إنِّى قَلَّدْتُ هَدْيي، ولَبَّدْتُ رَأسى، فلا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الحَجِّ)، وهذا يدل على أنه كان في عُمرةٍ معها حَج، فإنه لا يَحلُّ من العُمْرة حتى يَحِلَّ من الحَج، وهذا على أصل مالك والشافعىِّ ألزمُ، لأن المعتمِر عُمرةً مفردة، لا يمنعه عندهما الهدىُ من التحلل، وإنما يمنعه عُمْرة القِران، فالحديثُ على أصلهما نص . وتاسعُ عشرها: ما رواه النسائى، والترمذى، عن محمد بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أنه سمِعَ سعدَ بن أبي وقاص، والضحاكَ بن قيس عامَ حجَّ معاويةُ بنُ أبي سفيان، وهما يذكران التمتع بالعُمْرة إلى الحجِّ، فقال الضحاك: لا يصنعُ ذلك إلا مَنْ جَهِلَ أمرَ اللَّهِ، فقال سعد: بئسَ ما قلتَ يا ابنَ أخى . قال الضحاك: فإن عمرَ بنَ الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه، قال الترمذى: حديث حسن صحيح . ومراده بالتمتع هنا بالعُمْرة إلى الحَج: أحدُ نوعيه، وهو تمتُّع القِران، فإنه لغةُ القرآن، والصحابة الذين شهدوا التنزيلَ والتأويل شهِدوا بذلك، ولهذا قال ابنُ عمر: تمتع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعُمْرة إلى الحَجِّ، فبدأ فأهلَّ بالعُمْرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ، وكذلك قالت عائشة، وأيضاً: فإن الذي صنعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، هو مُتعة القِران بلا شك، كما قطع به أحمد، ويدل على ذلك أن عمران بن حصين قال: (تمتَّع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتمتَّعنا معه) متفق عليه. وهو الذي قال لمطرِّف: (أُحدِّثك حديثاً عسى اللَّه أن ينفعَك به، إن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، جمع بَيْن حَجٍّ وعُمْرَةٍ، ثمَّ لم يَنْهَ عَنْهُ حتَّى مَاتَ) . وهوفىصحيح مسلم، فأخبر عن قِرانه بقوله: تمتَّع . وبقوله: جمع بين حج وعُمْرة . ويدل عليه أيضاً: ما ثبت في الصحيحين عن سعيد بن المسيِّب قال: (اجتمع علىٌّ وعثمانُ بعُسْفَان، فقال: كان عثمانُ ينهى عن المُتعة أو العُمرة، فقال علىّ: ما تُريد إلى أمر فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ قال عثمانُ: دعنا مِنْك، فقال: إنى لا أستطيع أن أدعَك، فلما أن رأى علىٌّ ذلك، أهلَّ بِهِما جميعاً) . هذا لفظ مسلم . ولفظ البخارى (اختلف علىّ وعُثمان بعُسْفَانَ في المُتعة، فقال علىُّ: ما تريد إلا أن تنهى عن أمرٍ فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك علىٌّ، أهلَّ بهما جميعا). وأخرج البخارى وحدَه من حديث مروان بنِ الحكم قال: (شهدتُ عثمان وعلياً، وعثمانُ ينهى عن المُتعة، وأن يُجْمَعَ بينهما، فلما رأى علىٌّ ذلك، أهلَّ بهما: لبَّيْكَ بعُمْرَةٍ وحَجَّة، وقال: ما كنتُ لأَدَعَ سُّـنَّة رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِقول أحد) . فهذا يُبيِّن، أن مَن جمع بينهما، كان متمتِّعاً عندهم، وأن هذا هو الذي فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه عثمانُ على أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإنه لما قال له: ما تُريد إلى أمر فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تنهى عنه، لم يقل له: لم يفعلْه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولولا أنه وافقه على ذلك، لأنكره، ثم قصد علىّ إلى موافقة النبى صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في ذلك، وبيان أن فعله لم يُنسخ، وأهلَّ بهما جميعاً تقريراً للاقتداء به ومتابعته في القِران، وإظهاراً لسُّـنَّة نهى عنها عثمان متأوِّلاً، وحينئذ فهذا دليل مستقل تمام العشرين . الحادى والعشرون: ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن عُروة، عن عائشة أنها قالت: (خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامَ حَجَّة الوداع، فأهللنا بعُمرة، ثم قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كانَ مَعَه هَدْىٌ، فَلْيُهْلِلْ بالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ منهما جَمِيعاً) . ومعلوم: أنه كان معه الهَدْىُ، فهو أولى مَن بادر إلى ما أمر به، وقد دل عليه سائرُ الأحاديث التي ذكرناها ونذكرها . وقد ذهب جماعة من السَلَف والخَلَف إلى إيجاب القِران على مَن ساق الهَدْىَ، والتمتع بالعُمْرة المفردة على مَن لم يَسُق الهدىَ، منهم: عبدُ اللَّه بن عباس وجماعة، فعندهم لا يجُوز العدولُ عما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمر به أصحابه، فإنه قرن وساق الهَدْى، وأمر كُلَّ مَن لا هَدْىَ معه بالفسخ إلى عُمْرة مفردة، فالواجب: أن نفعل كما فعل، أو كما أمر، وهذا القول أصحُّ مِن قول مَن حرَّم فسخ الحج إلى العُمْرة من وجوه كثيرة، سنذكرها إن شاء اللَّه تعالى . الثانى والعشرون: ما أخرجاه في الصحيحين أبي قِلابة، عن أنس بن مالك . قال: (صلَّى بنا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحنُ معه بالمدينة الظهرَ أربعاً، والعصرَ بذى الحُليفة ركعتين، فباتَ بها حتَّى أصبح، ثم ركِبَ حتَّى استوت به راحِلتُه على البيداء، حَمِدَ اللَّه وسبَّح وكبَّر ثمَّ أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة، وأهلَّ الناسُ بهما، فلما قَدمنَا، أمرَ الناس، فحلُّوا، حتى إذا كان يومُ التَّرْويَةِ أهلُّوا بالحَج) . وفي الصحيحين أيضاً: عن بكر بن عبد اللَّه المزنى، عن أنس قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُلبِّى بالحجِّ والعُمرة جميعاً، قال بكر: فحدثتُ بذلك ابنَ عمر، فقال: لبَّى بالحَجِّ وحدَه، فلقيتُ أنساً، فحدَّثتُه بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدُّوننا إلا صِبْياناً، سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (لَبَّيْكَ عُمْرَةً وحَجَّاً) . وبين أنس وابن عُمر في السِّنِّ سنةٌ، أو سنةٌ وَشئٌ . وفى صحيح مسلم، عن يحيى بن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحُميد، أنهم سمِعوا أنساً قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أهلَّ بهما: (لَبَّيْكَ عُمْرَةً وحَجَّاً) . وروى أبو يوسف القاضى، عن يحيى بن سعيد الأنصارى، عن أنس قال: سمعتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ معاً) . وروى النسائى من حديث أبي أسماء، عن أنس قال: (سمعت النبىَّ صلى الله عليه وسلم، يُلَبِّى بِهِمَا). وروى أيضاً من حديث الحسن البصرى، عن أنس: (أن النبى صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحَجِّ والعُمْرة حين صلَّى الظهر) . وروى البزار، من حديث زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب، عن أنس، أن النبى صلى الله عليه وسلم، أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة . ومن حديث سُليمان التيمى عن أنس كذلك، وعن أبي قدامة عن أنس مثله، وذكر وكيع: حدثنا مُصعب بن سليم قال: سمعت أنساً مثله، قال: وحدثنا ابنُ أبي ليلى، عن ثابت البنانى، عن أنس مثله، وذكر الخشنى: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي قزعة، عن أنس مثله. وفى صحيح البخارى، عن قتادة، عن أنس (اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أربَع عُمَر، فذكرها وقال: وعُمْرة مع حَجَّته..) وقد تقدَّم . وذكر عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة وحُميد بن هلال، عن أنس مثله، فهؤلاء ستة عشر نفساً من الثقات، كُلُّهم متَّفِقون عن أنس، أن لفظ النبى صلى الله عليه وسلم كان إهلالاً بحَجٍّ وعُمرة معاً، وهم الحسن البصرى، وأبو قِلابة، وحُميد بن هلال، وحُميد بن عبد الرحمن الطويل، وقتادة، ويحيى بن سعيد الأنصارى، وثابت البُنانى، وبكر بن عبد اللَّه المزنى، وعبد العزيز بن صُهيب، وسليمان التيمى، ويحيى بن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بنُ سليم، وأبو أسماء، وأبو قُدامة عاصم بن حسين، وأبو قزعة وهو سُويد بن حجر الباهلى . فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه، وهذا علىّ والبرّاء يُخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقِران، وهذا على أيضاً، يُخبر أَن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا عمرُ بن الخطاب رضى اللَّه عنه، يُخبر عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن ربَّه أمره بأن يفعله، وعلَّمه اللَّفظ الذي يقوله عند الإحرام، وهذا على أيضاً يخبر، أنه سمعَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُلبِّى بهما جميعاً، وهؤلاء بقيةُ مَنْ ذكرنا يخبرون عنه، بأنه فعله، وهذا هو صلى اللَّه عليه وسلم يأمُرُ به آله، ويأمر به مَن ساق الهَدْى . وهؤلاء الذين رَوَوُا القِران بغاية البيان: عائشة أم المؤمنين، وعبدُ اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعلىّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلىِّ، وتقرير علىّ له ، وعِمران بن الحُصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابنُ أبي أوفى، وأبو طلحة، والهِرماس بن زياد، وأُمُّ سلمة، وأنسُ بن مالك، وسعدُ بن أبي وقاص، فهؤلاء هم سبعةَ عشر صحابياً رضى اللَّه عنهم، منهم مَن روى فعله، ومنهم مَن روى لفظ إحرامه، ومنهم مَن روى خبره عن نفسه، ومنهم مَن روى أمره به . فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر، وجابراً، وعائشة، وابن عباس؟ وهذه عائشةُ تقول: (أهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج) وفى لفظ (أفرد الحج) والأول فىالصحيحين والثانى في مسلم وله لفظان، هذا أحدهما والثانى(أهلَّ بالحج مُفرِدا)، وهذا ابنُ عمر يقول: (لبَّى بالحجِّ وحدَه) . ذكره البخارى، وهذا ابن عباس يقول: (وأهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج) رواه مسلم، وهذا جابر يقول: (أفرد الحج) رواه ابن ماجه. قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث مَن ذكرتم لا حُجة فيها على القِران، ولا على الإفراد لتعارضها، فما الموجبُ للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها؟ فكيف وأحاديثُهم يُصدِّقُ بعضُها بعضاً ولا تعارض بينها، وإنما ظنَّ مَن ظن التعارض لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم، وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم . ورأيت لشيخ الإسلام فصلاً حسناً في اتفاق أحاديثهم نسوقه بلفظه، قال: والصوابُ أن الأحاديث في هذا الباب متفقة ليست بمختلفة إلا اختلافاً يسيراً يقع مثلُه في غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتَّع، والتمتع عندهم يتناولُ القِران، والذين رُوى عنهم أنه أفرد، رُوى عنهم أنه تمتع، أما الأول: ففى الصحيحين عن سعيد بن المسيِّب قال: اجتمع على وعثمان بعُسفانَ، وكان عثمان ينهى عن المُتعة أو العُمرة، فقال علىُّ رضى اللَّه عنه: (ما تريد إلى أمر فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا مِنك . فقال: إنى لا أستطيعُ أن أدَعك . فلما رأى علىُّ رضى عنه ذلك، أهلَّ بهما جميعاً)هذا يُبين أن مَن جمع بينهما كان متمتعاً عندهم، وأن هذا هو الذي فعله النبى صلى الله عليه وسلم، ووافقه عثمان على أن النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن كان النزاعُ بينهما: هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟ وهل شُرِع فسخُ الحج إلى العُمْرة في حقنا كما تنازع فيه الفقهاء؟ فقد اتفق علىٌّ وعثمان، على أنه تمتَّع، والمراد بالتمتع عندهم القِران، وفى الصحيحين عن مطرِّف قال: قال عِمران بن حصين (إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمع بين حجٍّ وعُمْرة، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرِّمه) . وفى رواية عنه: تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه، فهذا عِمران وهو من أجلِّ السابقين الأوَّلين، أخبر أنه تمتع، وأنه جمع بين الحجِّ والعُمْرة، والقارِن عند الصحابة متمتِّع، ولهذا أوجبوا عليه الهَدْىَ، ودخل في قوله تعالى: قال: فهؤلاء الخلفاء الراشدون: عمر، وعثمان، وعلىّ، وعِمران بن حُصين، روىَ عنهم بأصح الأسانيد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرن بين العُمرة والحج، وكانوا يسمون ذلك تمتعاً، وهذا أنس يذكر أنه سِمع النبى صلى الله عليه وسلم يُلبِّى بالحجِّ والعُمرة جميعاً . وما ذكره بكرُ بن عبد اللَّه المزنى، عن ابن عمر، أنه لبَّى بالحج وحده، فجوابه أن الثقات الذين هم أثبتُ في ابن عمر من بكر مثل سالم ابنه، ونافع رَوَوْا عنه أنه قال: تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعُمْرة إلى الحج، وهؤلاء أثبتُ في ابن عمر من بكر . فتغليطُ بكر عن ابن عمر أولى من تغليط سالم ونافع عنه، وأولى من تغليطه هو على النبىِّ صلى الله عليه وسلم، ويُشبه أن ابن عمر قال له: أفردَ الحج، فظن أنه قال: لبَّى بالحج، فإن إفراد الحج، كانوا يُطلقونه ويُريدون به إفراد أعمال الحج، وذلك رد منهم على مَن قال: إنه قرن قِراناً طاف فيه طوافين، وسعى فيه سعيين، وعلى مَن يقول: إنه حلَّ من إحرامه، فرواية مَن روى من الصحابة أنه أفرد الحج، تردُّ على هؤلاء، يبين هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع، عن ابن عمر، قال: أهللنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجِّ مُفرداً، وفى رواية: أهل بالحجِّ مفرداً . فهذه الرواية إذا قيل: إن مقصودها أن النبى صلى الله عليه وسلم أهلَّ بحج مفرداً، قيل: فقد ثبت بإسناد أصحَّ من ذلك، عن ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم تمتع بالعُمْرة إلى الحَج، وأنه بدأ، فأهلَّ بالعُمْرة ثم أهلَّ بالحَج، وهذا مِن رواية الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر وما عارض هذا عن ابن عمر، إما أن يكون غلطاً عليه، وإما أن يكون مقصُوده موافقاً له، وإما أن يكون ابن عمر لما علم أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَحِلَّ، ظنَّ أنه أفرد، كما وَهِمَ في قوله: إنه اعتمر في رجب، وكان ذلك نسياناً منه، والنبى صلى الله عليه وسلم لما يَحِلَّ من إحرامه، وكان هذا حال المفرد ظن أنه أفرد، ثم ساق حديث الزهرى، عن سالم، عن أبيه: (تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ...) الحديث . وقول الزهرى: وحدثنى عُروة، عن عائشة بمثل حديث سالم عن أبيه قال: فهذا مِن أصح حديثٍ على وجه الأرض، وهو من حديث الزهرى أعلم أهلِ زمانه بالسُّـنَّة، عن سالم، عن أبيه، وهو من أصح حديث ابن عمر وعائشة . وقد ثبت عن عائشة رضى اللَّه عنها في الصحيحين (أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعَ عُمَر، الرابعة مع حَجَّته) . ولم يعتمِرْ بعد الحَجِّ باتفاق العلماء، فيتعينُ أن يكون متمتِّعاً تمتُّع قِران، أو التمتع الخاص . وقد صح عن ابن عمر، أنه قرن بين الحَجِّ والعُمْرة، وقال: (هكذا فعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم) رواه البخارى في الصحيح . قال: وأما الذين نُقِلَ عنهم إفراد الحج، فهم ثلاثة: عائشة، وابن عمر، وجابر، والثلاثة نُقِلَ عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر:أنه تمتع بالعُمْرة إلى الحَجِّ أصحُّ من حديثهما، وما صح في ذلك عنهما، فمعناه إفرادُ أعمال الحج، أو أن يكون وقعَ منه غلط كنظائره، فإن أحاديث التمتع متواترة رواها أكابرُ الصحابة، كعمر، وعثمان، وعلى، وعِمران بن حصين، ورواها أيضاً:عائشة، وابنُ عمر، وجابر، بل رواها عن النبى صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة. قلت: وقد اتفق أنس، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، على أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر، وإنما وهم ابنُ عمر في كون إحداهن في رجب، وكلهم قالوا: وعُمْرة مع حَجَّته، وهم سوى ابن عباس . قالوا: إنه أفرد الحج، وهم سوى أنس، قالوا: تمتع . فقالوا: هذا، وهذا، وهذا، ولا تناقض بين أقوالهم، فإنه تمتعَ تَمَتُّعَ قِران، وأفرد أعمال الحج، وقرن بين النُّسكين، وكان قارناً باعتبار جمعه بين النُّسكين، ومفرداً باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين، ومتمتِّعاً باعتبار ترفُّهه بترك أحد السفرين . ومَن تأمل ألفاظَ الصحابة ، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض ، واعتبر بعضها ببعض ، وفهم لغةَ الصحابة ، أسفر له صُبْحُ الصواب ، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب ، واللَّه الهادى لسبيل الرشاد ، والموفق لطريق السداد . فمَن قال : إنه أفرد الحج وأراد به أنه أتى بالحج مفرداً ، ثم فرغ منه ، وأتى بالعُمْرة بعده من التنعيم أو غيره ، كما يظن كثيرٌ من الناس ، فهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، ولا أحد من أئمة الحديث . وإن أراد به أنه حَجَّ حَجَّاً مفرداً ، لم يعتمِرْ معه كما قاله طائفة من السَلَف والخَلَف ، فوهم أيضاً ، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده كما تبَيَّن ، وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده ولم يفرد للعُمْرة أعمالا ، فقد أصاب ، وعلى قوله تدل جميع الأحاديث . ومَن قال : إنه قرن ، فإن أراد به أنه طاف للحَجِّ طوافاً على حدة ، وللعُمْرة طوافاً على حدة ، وسعى للحَجِّ سعياً ، وللعُمْرة سعياً ، فالأحاديث الثابتة ترد قوله ، وإن أراد أنه قرن بين النُّسكين ، وطاف لهما طوافاً واحداً ، وسعى لهما سعياً واحداً ، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله ، وقولُه هو الصواب . ومَن قال : إنه تمتَّع ، فإن أراد أنه تمتَّع تَمَتُّعاً حلَّ منه ، ثم أحرم بالحَجِّ إحراماً مستأنفاً ، فالأحاديث تردُّ قوله وهو غلط ، وإن أراد أنه تمتع تمتعاً لم يَحِلَّ منه ، بل بقى على إحرامه لأجل سَوْق الهَدْى ، فالأحاديث الكثيرة تردُّ قولَه أيضاً ، وهو أقلُّ غلطاً ، وإن أراد تمتع القِران ، فهو الصوابُ الذي تدل عليه جميع الأحاديث الثابتة ، ويأتلف به شملُها ، ويزول عنها الإشكالُ والاختلاف .
|